## الأم ليست كما عرفناها: سرديات مغايرة للأمومة تهزّ شاشة مهرجان كان
يُعتبر مهرجان كان السينمائي، منذ تأسيسه،
نافذةً يُطل منها العالم على أحدث التيارات الإبداعية وأعمق القضايا الإنسانية
التي تشغل بال صناع الأفلام. وفي دورته لهذا العام، برزت "الأمومة" كقاسم مشترك لافت، وخيط سردي عاطفي معقد، نسجته أفلام متباينة في أساليبها ومدارسها
الإخراجية، لكنها توحدت في شغفها باستكشاف هذا الرابط الإنساني الأول، مقدمةً إياه
في تجليات بعيدة كل البعد عن الصور النمطية أو المثالية التي طالما حُصرت فيها. لم
تعد الأم مجرد شخصية هامشية أو خلفية درامية، بل تحولت في هذه الأعمال إلى بوصلة
حاسمة، تقود المُشاهد في رحلة لتفكيك الذات، العائلة، والمجتمع بأسره.
![]() |
## الأم ليست كما عرفناها: سرديات مغايرة للأمومة تهزّ شاشة مهرجان كان |
شخصيات نسائية
لقد حمل السينمائيون، رجالاً ونساءً، على عاتقهم تقديم شخصيات نسائية تجسد الأمومة في أبعادها الأكثر هشاشة وتعقيداً.
انطلقت هذه السرديات من فهم حدسي وعاطفي لحقيقة هذا الدور المحوري، متجاوزة التبسيط نحو الغوص في أعماق النفس البشرية. فمن الأمومة التي تتحول إلى عبء نفسي ينوء بثقله على كاهل المرأة، مهددةً تماسكها الذاتي واستقرارها العقلي.
- إلى الأمومة المقاتلة التي تتحدى الصعاب والأحكام المجتمعية القاسية لتأمين الكرامة والحماية
- لأبنائها، وصولاً إلى الأم الغائبة التي يستحيل فراغها جرحاً نازفاً في ذاكرة الأبناء، تتعدد زوايا
- المقاربة وتتعمق الرؤى.
**نماذج سينمائية لأمومة غير تقليدية**
في فيلم "مت، حبيبي" للمخرجة الاسكتلندية لين رامزي،
والذي نافس بقوة في المسابقة الرسمية، نشهد انحدار البطلة، التي جسدتها ببراعة جنيفر لورنس، نحو هاوية الجنون. تعيش هذه الأم الكاتبة، المحرومة جسدياً وعاطفياً، في عزلة خانقة، وتصارع شعوراً بالفقد والكبت واللاجدوى. الفيلم يصور بجرأة اكتئاب ما بعد الولادة.
- ذاك الظل القاتم الذي يخيّم على كثيرات ويظل طي الكتمان. الأم هنا تحب ابنها، لكن عاطفتها تجاهه
- مشوشة، مقطوعة النبض، كأنما يفصل بينهما حجاب غير مرئي من الضياع والشعور بالذنب، فتغرق
- تدريجياً في
عالم من الفوضى والدمار.
المعروض في مسابقة "نظرة ما"، فيسلط الضوء على العلاقة المرهقة بين أم عزباء وابنها المصاب بالتوحد. هروب الأم بابنها من مجتمع رافض يكشف عن التوترات الكامنة في روابط الأمومة، حيث تجد نفسها ممزقة بين تلبية احتياجات طفلها الملحة ورغباتها الذاتية كإنسانة.
- الفيلم لا يقدم علاقة مثالية، بل يغوص في مشاعر الإرهاق الممزوج بالحب العميق والخوف من
- مستقبل مجهول، مصوراً صراع الأم
الداخلي بين واجب الرعاية وحقها في تحقيق ذاتها.
وفي قسم "عروض خاصة"
تستعيد المخرجة وكلمانتين أوتان تجربتيهما المؤلمتين مع فقدان الأم. هذا الغياب، الذي يحفر جرحاً صامتاً، يصبح محوراً سردياً يطرح حق الابنة في أم، وفي المقابل، يمنح الأم حق الوجود خارج قفص التضحية المطلقة. الأم الغائبة هنا ليست شراً مستطيراً ولا قديسة.
- بل امرأة اختارت مساراً حياتياً مغايراً، تاركةً أثراً عاطفياً عميقاً. الفيلم يسعى نحو المصالحة
- والغفران، حيث يصبح الفن وسيلة الابنة لاستعادة أمها
والتصالح مع الفقد.
تمتد من تجربة الحمل إلى التبني والعلاقة المعقدة بين الأم وابنتها. دخول والدة سيلين، العازفة الشهيرة، إلى حياة ابنتها التي تستعد لتبني طفل، يعيد فتح جروح قديمة مرتبطة بالأمومة الغائبة، ويثير تساؤلاً محورياً.
- هل يمكننا أن نكون آباءً وأمهات صالحين إن لم نواجه ونُصلح علاقاتنا بأمهاتنا؟ الفيلم يقدم الأمومة
- كحضور وغياب، وكقرار عاطفي محفوف بالتاريخ الشخصي، مؤكداً أن بناء العائلة يبدأ بالمواجهة
- الصادقة مع
الماضي.
وأخيراً، في قسم "أسبوعا صناع السينما"
البطلة الشابة نافو تعتقد أنها ورثت قدرات غامضة عن والدتها الراحلة. الأم، رغم غيابها الجسدي، تحضر كطيف مثقل بالغموض والخوف والرغبة المكبوتة في وعي ابنتها. الإرث الأمومي هنا لا يمثل حماية.
- بل قد يكون لعنة تربك هوية الابنة وتقودها إلى حافة الانفجار، مقترحاً أن الأمومة قد تكون قوة باهرة
- ومخيفة
في آن، تعيد تشكيل هوية الأبناء في مواجهة عالم قاسٍ.
**خاتمة**
إن هذه الأفلام وغيرها مما عُرض في كان، تؤكد أن السينما المعاصرة تتجه بشكل متزايد نحو تفكيك التمثيلات التقليدية للأمومة. لم يعد الأمر يقتصر على الاحتفاء بالتضحية أو الحنان الفطري، بل امتد ليشمل الصراعات الداخلية، الآلام، الشكوك، وحتى الجوانب المظلمة التي قد تصاحب هذه التجربة الإنسانية الفريدة.
لقد نجح مهرجان كان هذا العام في تقديم بانوراما سينمائية غنية
بالأبعاد الإنسانية للأمومة، سرديات مغايرة تتحدى المُشاهد وتدعوه للتفكير بعمق في
هذا الرابط الأول والأكثر جوهرية، والذي لا يزال منجماً لا ينضب للحكايات السينمائية
العميقة والمؤثرة.